فصل: تفسير الآيات (114- 117):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (104- 113):

{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)}
{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان واصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي تتوجعون وتشتكون من الجراح {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي يتوجعون ويشتكون من الجراح {كَمَا تَأْلَمونَ} وانتم مع ذلك امنون {وَتَرْجُونَ مِنَ الله} الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان.
{مَا لاَ يَرْجُونَ} وقيل: تفسر الآية: وترجون من الله ما لا يرجون أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. قال الفراء: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد، كقول الله تعالى {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي لاتخافون لله عظمة، وهي لغة حجازية.
قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الذائذا ** أسبعة لاقت معاً أم واحداً

وقال الهذلي: يصف معتار العسل ذا النوب وهي النحل:
ويروى في بيت نوب عوامل ** إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوب عوامل.
قال: ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولاخفتك وأنت تريد رجوتك.
{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وكان الدقيق يُنشَر من خرق في الحراب، حتى إنتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد ابن السمين، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق منتشراً فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي: دفعها لي طعمة بن البرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: أيطلبوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يُرى معذوراً فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إنْ لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرئ اليهودي فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فأنزل الله تعالى يعاتبه {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق}» الآيات.
وفي رواية أُخرى عن ابن عباس قال: إن طعمة سرق درعاً من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخاله فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة فأخذه وحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية.
علي بن الضحاك: «نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعاً فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة، فأنزل الله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول}» [النساء: 110] الآية.
وقال مقاتل: إن زيد السمين أودع درعاً عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب، فأشرف على السطح، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال: أرى درعاً في دار أبي هلال، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشكوا وقالوا: إنهم قد فضحونا وسرقونا، فعاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} أي بالأمر والنهي والفصل {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} أي معيناً {واستغفر الله} ابن عباس قال: واستغفر الله مما هممت به من قطع يد زيد.
الكلبي: واستغفر الله يا محمد من همك باليهودي أن تضربهِ.
مقاتل: واستغفر الله من جدالك الذي جادلت عن طعمة {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} يعني خائناً في الدرع {أَثِيماً} في رميه اليهودي وقوله: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}. قد قيل فيه: إن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، كقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94] والنبي لايشك ممّا أنزل الله، فإن قيل: قد أمر بالاستغفار قلنا هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم.
واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه: يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه {يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} أي يستترون ويستحيون من الناس {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ} أي يستترون ولا يستحيون {مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ} يعني علمه.
{إِذْ يُبَيِّتُونَ}. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني يقولون، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين: يولعون {مَا لاَ يرضى مِنَ القول} يعني بأن اليهودي سرقه {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} يعني قد احاط الله بأعمالهم الحسنة.
وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال: {وَهُوَ مَعَهُمْ} ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وهو معهم إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} [الملك: 16] ولم يرد قوله انه في السماء يَعني غير الذات لأن القول: أنّ زيداً في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لايكون إلاّ بالذات، وقال تعالى {إليه يصعد الكلم الطيب} وقال: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} [السجدة: 5] فأخبر أنه يرفع الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يدبر الأمر من السماء وإليه يصعد الكلم الطيب، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال: {هَا أَنْتُمْ هؤلاء} أي يا هؤلاء للتنبيه {جَادَلْتُمْ} أي خاصمتم عن أبي طعمة، ومتى سافر أبي بن كعب {عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا} والمطلب به في اللغة بشدة المخاصمة وهو من الجدل وهو شدّة الفتل وفيه: رجل مجدول الخلق، وفيه: الأجدل للصقر لأنّه من أشدّ الطيور قوّة.
{فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ} أي عن طعمة {يَوْمَ القيامة} لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} كفيلاً.
ثم استأنف وقال: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا} يعني يسرق الدرع {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} برميه البريء في السرقة، يقال: ومن يعمل سوءاً أي شركاً أو يظلم نفسه يعني بما دون الشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} أي يتوب إلى الله {يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} متجاوزاً {رَّحِيماً} به حين قبل توبته {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} يعني يمنه بالباطل {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} يقول فإنما يضرُ به نفسه ولا يُؤخذ غير الاثم بإثم الإثم {وَكَانَ الله عَلِيماً} بسارق الدرع {حَكِيماً} حكم القطع على طعمة في السرقة {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة} أي بيمينه الكاذبة، {أَوْ إِثْماً} بسرقته الدرع، وبرميه اليهودي {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي يقذف بما جناه من مأمنه {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً} والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل.
وقال الزجاج: البهتان الكذب الذي يتخير من عظمه. {وَإِثْماً مُّبِيناً} ذنباً بيناً.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس {ومن يكسب خطيئة أو إثماً} عبد الله بن أبي بن سلول {ثم يرم به بريئاً} يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك، وقوله: {ثم يرم به} ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفراً، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} بالنبوة {وَرَحْمَتُهُ} نصرك بالوحي {لَهَمَّت} يقول لقد همّت يعني أضمرت {طَّآئِفَةٌ} يعني جماعة {مِّنْهُمْ} يعني طعمة {أَن يُضِلُّوكَ} أي يخطؤك {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يقول ومايخطؤن إلاّ أنفسهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} وكان ضره على من شهد بغير حق {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} قبل الوحي {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} منّ الله عليك {عَظِيماً} بالنبوة.
هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، ثم قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} يعني به الإسلام والقرآن {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} يعني من ثقيف {أَن يُضِلُّوكَ} وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناماً بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه، فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يعني وفد ثقيف {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} يعني لايستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلاً ثم قال: {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} يعني الاحكام وعلمك مالم تكن تعلم من الشرائع وكان فضل الله أي منّ الله عليك بالإيمان عظيماً.

.تفسير الآيات (114- 117):

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)}
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ}.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي حثّ عليها {أَوْ مَعْرُوفٍ} يعينه بفرض أسباب {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس} يعني بين طعمة واليهودي {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} القرض بمنح أو هدية {ابتغآء مَرْضَاتِ الله} أي طلب رضاه {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في الآخرة {أَجْراً عَظِيماً} يعني جنة.
وعن ابن سيرين: معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة، والانسان سراً كان أو ظاهراً، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه.
قال الشاعر:
فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه ** سيرضيكما منها سنام وغار به

ويقال: نجوت فلاناً إذا استنكهته.
قال الشاعر:
نجوت مجالداً فوجدت منه ** كريح الكلب مات حديث عهد

ونجوت وتر واستنجيته إذا أخلصه.
قال الشاعر:
فتبازت فتبازخت لها ** كجلسة الأعسر يستنجي الوتر

وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض.
قال الشاعر:
كمن بنجوته كمن بعقوته ** والمستكن كمن يمشي بقرواح

فمعنى {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} يعني ما دوّن منهم من الكلام {إلاّ من أمر بصدقة} يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع، فوجه الخفض على قولك: لاخير في كثير من نجواهم إلاّ فيمن أمر بصدقة.
والنجوى ههنا الرجال المتناجون كما قال: ولاهم نجوى.
وقال قائلون: النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلاً ويكون قوله إلاّ استنثاء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهراً.
قال النابغة:
إلاّ الأواري لأيّا ما أبينها ** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة.
وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

{وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} نزلت في طعمة بن الأبرق أيضاً وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} أي يخالف {من بعد ما تبين له الهدى} أي التوحيد بحدوده {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الاوثان {نُوَلِّهِ مَا تولى} نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} فلم ينتهِ طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج: كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ يتفل، فقال بعضهم: دعوه فإنه لجأ إليكم، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فراراً منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الاحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيساً فيه دنانير فأمسكوا به فأخذ وأُلقي في البحر، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنماً لهم إلى إن مات، فأنزل الله فيه {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} فنزل فيه {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول}: نزلت هذه الآية في نفر من قريش، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الاوثان، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} أي يفارق الرسول، ويعاديه ويحاربه {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} يعني من بعد ماوضح له إن محمد عبده ورسوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غير طريق المسلمين {نُوَلِّهِ مَا تولى} أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهي لا تملك ضراً ولانفعاً ولا ينجيهم من عذاب الله ونصله جهنم بعبادة الأصنام.
{وَسَآءَتْ مَصِيراً} يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة.
الضحاك عن ابن عباس: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} قال: إن شيخاً من الاعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يانبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلاّ إني لم اشرك بالله شيئاً منذ عرفته، وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين، إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله.
واعلم أن في قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} دليل على قوة حجة الاجماع وفي قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحَتم على نفسه بأن لايغفر الشرك.
لو كان الكبيرة كفراً لكان قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} مستوعباً فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة بين الشرك والإيمان إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضداً للإيمان.
وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا: إن المؤمن لايعذّب، وإن كان مرتكباً للذنوب. لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتماً، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما علّقه في الشرك، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل. ثم نزلت في أهل مكة {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً} من دونه كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أي اعبدوني أستجب، لكم يدلّ عليه قوله بعده {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] من دونه، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسَدنة والكهَنة يكلمهم فذلك قوله: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} [النساء: 117] وكان المشركون يدعون اصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين.
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس: إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب. وأصله وثن وقرئت إنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة: إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً يعني أمواتاً لاروح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها.
وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين، فإن يدعون وما تعبدون إلاّ شيطاناً مريداً والمريد المارد فقيل: بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال: مرد الرجل يمرد مروداً ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب: حدثنا ممرد أي مملس.
ويقال: شجرة مردا إذا يتناثر ورقها، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد، أي أملس موضع اللحية.
فالمراد: الخارج من الطاعة المتملّص منها.